×

جنوب السودان: “أتذكر ليلاً جميع الذين لم ينجوا”

جنوب السودان: “أتذكر ليلاً جميع الذين لم ينجوا”

بلغ حالياً عدد النازحين من جنوب السودان أكثر من 1.5 مليون شخص هربوا على خلفية النزاع القائم في أحدث دولة في العالم بسبب أزمة سياسية بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2013. وتعاني عائلات عديدة نزحت إلى مناطق نائية من الحرمان من الرعاية الصحية في ظل انعدام المساعدات الإنسانية. وفي سبتمبر/أيلول، انتقلت مارتي هوتيس، وهي أخصائية طبية، بالطائرة المروحية إلى إحدى المناطق النائية في جنوب السودان للقاء العائلات النازحة وتقييم وضعها الصحي.

أقلتني طائرة مروحية إلى منطقة نائية في ولاية أعالي النيل في جنوب السودان لإجراء مهمة استطلاعية بشأن أوضاع مئات العائلات التي نزحت من منازلها في الناصر بعد اندلاع الاشتباكات في المنطقة قبل بضعة أشهر. وخلال جولتي، التقيت بالسلطات والقادة المحليين الذين قالوا لي: “الناس جياع. اضطررنا للهرب، لذا ليس لدينا أي شيء نزرعه. ولا نملك سوى الحليب الذي تنتجه أبقارنا والنباتات الصالحة للأكل التي نعثر عليها. فيموت أطفالنا، فيما لا تحظى النساء الحوامل بأي رعاية عند الولادة”.

ويروي العاملون الصحيون القصة عينها وهم يعاينون أطفالاً يعانون من سوء التغذية، ومرضى مصابين بالإسهال والالتهاب الرئوي. كما يشعرون بالعجز فيما يحاولون العمل في المراكز الصحية المتهالكة والتي تكاد تخلو من أي دواء. وفي ماندنغ، سرتُ في سوق فارغ في وسط القرية، وأبلغتُ المترجم برغبتي بالتحدث إلى العائلات المنكوبة مباشرة. ومشينا في مستنقع تصل فيه المياه إلى الركب باتجاه مجموعة من الأكواخ المبنية من الطين حيث رأيت امرأة تلوح لنا.

عاشت روز مع زوجها وأولادها في الناصر، ولكنها اضطرت للنزوح عندما اندلعت معارك عنيفة في البلدة. وكانت ممتنة للعائلة التي استقبلتها، ولقطيع البقر والماعز الذي رافقها في نزوحها إذ أمّن الحليب للأطفال. وقالت لي: “الأبقار مريضة، لقد فقدنا سبعة منها خلال الأسابيع القليلة الماضية. ولكن هناك أشخاص نزحوا من دون قطيع”.

ثم أشارت إلى بعض العشب الأخضر في المستنقع وقالت: “أترين النبات هناك؟ نغليه في المياه”. وسألتها عن مصدر المياه إذ أن مضخات المياه في القرية معطلة، فأجابت: “نستعمل مياه المستنقع. يمرض الأولاد كما الراشدون؛ لكن هذا هو كل ما لدينا”.

وفي جغمير، وهي قرية صغيرة على ضفاف نهر السوباط، جلست مع مجموعة من 15 امرأة في عيادة مهدمة. هرب عدد كبير من هذه النساء من منازلهن، وخسرن جميعهن أفراداً من عائلاتهن خلال المعارك، وباتت بعضهن أراملاً. وبدأن الحديث عن ترك منازلهن مرغمات جراء أعمال العنف. كما كانت قصصهن مليئة بالكراهية والموت والخوف من المستقبل.

وقالت لي امرأة تدعى فرانسيس: “نعيش في مستنقع موحل ونبحث كل يوم عن مكان لقضاء الليل. وعندما نجد أخيراً مكاناً آمناً للنوم مع الأطفال، أصاب بالأرق. أبقى مستيقظة أتذكر جميع الذين لم ينجوا”.

بالإضافة إلى مسألة السلامة، تواجه النساء يومياً مشقة إيجاد مياه نظيفة كافية وطعام لعائلاتهن. فغالباً ما يكون الأطفال جياعاً. وتأثرت إلى أبعد حدود بكلمات أم شابة تدعى لوسي قالت: “عندما أفكر بكل هذه المشاكل المستعصية، أجد أحياناً أنه من الأفضل لي أن أضع حداً لهذه المعاناة بنفسي”.

وعندها، عمّ السكون المجموعة فيما اقتربت امرأة وعانقت لوسي. ثم بدأت امرأة أخرى اسمها ماري الحديث عن المأساة التي عاشتها، لكنها شددت على إيمانها وأملها بالمستقبل. وقالت: “لا يمكن لأحد التنبؤ بالمستقبل؛ الله فقط يعرف مصيرنا. ولكننا نكافح يومياً ولسنا أبداً لوحدنا”.

بعد مرور أسبوعين، عدت لأبدأ مشروعاً جديداً في المنطقة. لقد شيدنا عدداً من النقاط الصحية، فيما يتنقل فريق على متن قارب من قرية إلى أخرى على ضفاف نهر السوباط لمساعدة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية ويحتاجون إلى متابعة برنامجنا المعنى بالتغذية العلاجية. كما عملنا على إصلاح المضخات اليدوية المعطلة.

وفي قرية توركش، اخترنا قطعة أرض جافة لإقامة عيادتنا المتنقلة والتقينا عاملي التوعية الذين دربناهم. لقد عاينوا خلال الأيام القليلة الماضية جميع الأطفال والنساء الحوامل في القرى المجاورة بحثاً عن عوارض سوء تغذية وأحالوهم إلى العيادة.

وفيما كنا نعالج الطفل الأول، رأيت امرأة عجوز ضريرة تمشي بمساعدة أحفادها. كان ظهرها مقوساً، وبشرتها مجعدة، وأطرافها ضعيفة تشبه الأعواد، فيما تحجب نظرها دائرتان بيضاويتان في عينيها. فمشيت نحوها ورحبت بها.

أخبرت أحفادها بأني أرغب في قياس محيط ذراعها إذ بدا لي أنها تعاني من سوء تغذية حاد، وأمسكت بها وقمت بالقياس فتأكدت شكوكي. سرت بها عندها إلى كرسي وطلبت من زملائي تسجيلها في برنامجنا.

بعدما لاحظ الناس تسجيل المرأة العجوز في البرنامج، بدأوا بمساعدة كبار السن على التوجه إلى مركزنا. وتبين أن عدداً كبيراً منهم هزيل، ومنهم من يعاني من سوء التغذية. كما لاحظت مستوى إهمالنا لكبار السن وتركيزنا على الأطفال، في حين أن العجزة هم فئة مستضعفة للغاية.

وعندما كنت أمسك بيدها الهزيلة، تساءلت عما عاشته هذه المرأة العجوز طوال حياتها. أمسكت بيدي، وشدت عليها، وقالت لي بصوت خافت: “شكراً”. 

نقلا عن منظمة أطباء بلا حدود