رايتس ووتش تنتقد التوسع غير المسبوق في المحاكمات العسكرية بمصر
ان المرسوم الذي أصدره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 27 أكتوبر/تشرين الأول يوسع اختصاص المحاكم العسكرية في البلاد ويحمل خطر عسكرة الملاحقة القانونية للمتظاهرين وغيرهم من معارضي الحكومة.
ويعمل القانون الجديد، الذي أصدره السيسي في غياب برلمان، على وضع جميع “المنشآت العامة والحيوية” تحت اختصاص القضاء العسكري لمدة عامين، كما أنه يوجه أفراد النيابة لإحالة الجرائم المرتكبة في تلك الأماكن إلى نظرائهم العسكريين، مما يمهد الطريق لزيادة كبيرة في المحاكمات العسكرية للمدنيين. وقد حاكمت محاكم مصر العسكرية، التي تفتقر حتى لما توفره المحاكم الطبيعية من ضمانات واهية لسلامة الإجراءات، أكثر من 11 ألف مدني منذ انتفاضة 2011.
قالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “يمثل هذا القانون مسماراً جديداً في نعش العدالة في مصر، فنصوصه الفضفاضة على نحو عبثي تعني أن المزيد من المدنيين المشاركين في احتجاجات يمكنهم الآن انتظار المحاكمة أمام قضاة بأزياء عسكرية، يخضعون لأوامر رؤسائهم العسكريين”.
وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني، أحالت محكمة جنايات بالقاهرة خمسة من طلاب جامعة الأزهر إلى محكمة عسكرية بتهم تتعلق بالمظاهرات المتكررة التي اندلعت في الجامعة ضد حكومة السيسي. يواجه الطلاب تهم الانضمام إلى جماعة إرهابية واستعراض القوة والتلويح باستخدام العنف وحيازة زجاجات حارقة والتخريب، وفق خدمة أصوات مصرية الإخبارية. وقد قضت محكمة الجنايات بعدم اختصاصها بنظر القضية، حسب تقارير إعلامية.
أصدر السيسي مرسومه بعد 3 أيام من هجوم بشبه جزيرة سيناء تسبب في قتل عشرات الجنود، هو الأكثر دموية حتى الآن في التمرد المتنامي منذ قيام الجيش بعزل الرئيس المصري المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، في يوليو/تموز 2013.
ويقرر المرسوم الجديد، أو القانون رقم 136 لسنة 2014 بشأن تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية، أن تتولى القوات المسلحة “معاونة أجهزة الشرطة والتنسيق الكامل معها فى تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية”، بما فى ذلك محطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقول البترول وخطوط السكك الحديدية وشبكات الطرق والكبارى وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة وما يدخل فى حكمها.
وقد ظل قضاة عسكريون يرأسون محاكمات لمدنيين في مصر طوال عقود، رغم جهود النشطاء وبعض السياسيين لإلغاء هذه الممارسة. ففي الشهور التي أعقبت انتفاضة 2011، على سبيل المثال، حاكمت المحاكم العسكرية المصرية 12 ألف مدني بطيف من التهم الجنائية العادية. أما القانون الجديد فهو يوسع من اختصاص المحاكم العسكرية إلى حد بعيد، فيمنحها أوسع سلطان قانوني لها منذ ولدت الجمهورية المصرية الحديثة في 1952. وقبل مرسوم السيسي كان الدستور المصري وقانون القضاء العسكري يقصران المحاكمات العسكرية، نظرياً، على القضايا الماسة مباشرة بالقوات المسلحة أو ممتلكاتها، رغم أن حالة الطوارئ التي استمرت 31 عاماً في البلاد، والتي انتهت في 2012، كانت تسمح لرئيس الجمهورية بإحالة مدنيين للقضاء العسكري.
ويبدو الجيش المصري عازماً على التوسع في تفسير القانون الجديد، ففي مقابلة مع قناة “سي بي سي” التلفزيونية في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، قال اللواء مدحت غزي، رئيس هيئة القضاء العسكري، إن الاختصاص العسكري يمتد إلى أي مبنى أو عقار يقدم “خدمة عامة” أو مملوك للدولة.
قال غزي: “إذا كانت هناك منشأة عامة أو حيوية يتم الاعتداء عليها، فمن المعتدي؟ لا يهم إن كان امرأة أو رجلاً أو معلماً أو طالباً أومراهقاً أو طفلاً… فالقانون قاعدة عامة ومجردة. لا يمكننا الآن أن نقول: هذه جامعات، هذه مصانع، هذه محطات كهرباء”.
ومنذ إشراف السيسي ـ وزير الدفاع وقائد الجيش السابق ـ على عزل مرسي بالقوة وسجنه في أعقاب الاحتجاجات الجماعية في يوليو/تموز 2013، حاكمت المحاكم العسكرية ما لا يقل عن 140 مدنياً، بحسب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وبينهم 3 أطفال و4 صحفيين. وواجه معظم المتهمين تهم الاعتداء على أفرد عسكريين أو معدات عسكرية.
وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول أصدرت محكمة عسكرية حكماً بالإعدام على 7 رجال، وبالسجن المؤبد على اثنين آخرين لتورطهم في 3 من حوادث العنف في مارس/آذار 2014 نجم عنها وفاة تسعة جنود. زعمت السلطات أن الرجال من أعضاء أنصار بيت المقدس، أبرز جماعات التمرد في مصر. وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت الجماعة مبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية المتمركز في سوريا، والمعروف أيضاً باسم داعش.
وتدعي الشرطة أنها اعتقلت الرجال التسعة في مداهمة بتاريخ 19 مارس/آذار لمخزن مهجور بمحافظة القليوبية شمالي القاهرة، عثرت فيه على أدلة تثبت وجود متفجرات وأسلحة تم استخدامها في الهجمات المميتة على الجنود في توقيت أسبق من ذلك الشهر. لكن المحاكمة التي تمت أمام هيئة من ضباط قاعدة الهايكستب العسكرية شمال شرق القاهرة، برتبة لواء، كانت تفتقر إلى الضمانات الأساسية لسلامة الإجراءات، مما يثير الشكوك حول عدالتها.
قال أحمد حلمي، المحامي الذي ترافع عن أربعة من الرجال، لـ هيومن رايتس ووتش إن عائلات ثلاثة من المتهمين طلبوا مساعدته في البداية في يناير/كانون الثاني، قبل شهرين من توقيت اعتقال الرجال حسب مزاعم الشرطة، مما يوحي بافتقار رواية السلطات عن المداهمة إلى الصحة.
وقال حلمي: “لقد اختفى المتهمون الثلاثة، كل على حدة، في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2013، قبل شهور من الوقائع التي اتهموا بارتكابها ـ وتم وضعهم في سجن العزولي”، في إشارة إلى منشأة عسكرية سرية داخل قاعدة الجلاء بمدينة الإسماعيلية المطلة على قناة السويس، كانت السلطات تستخدمها لاحتجاز المئات من المدنيين، بحسب منظمات حقوقية وتقارير إعلامية. وقال: “قمنا بتقديم شكوى إلى النائب العام، لكن السلطات ظلت تنكر وجود الرجال الثلاثة في عهدتها”.
كما قال حلمي إن السلطات رفضت السماح له بزيارة موكليه أثناء احتجازهم قبل المحاكمة، وإنه التقى بهم للمرة الأولى في أولى جلسات المحكمة في يونيو/حزيران.
وقال شقيق هاني عامر، وهو أحد المتهمين، لـ هيومن رايتس ووتش إن عامر اختفى في 16 ديسمبر/كانون الأول 2013، بعد زيارة مكتب المسؤول المحلي في الإسماعيلية لاستصدار ترخيص لشركة تكنولوجيا المعلومات الخاصة به. وقال الشقيق إن بعض الشهود أبلغوا العائلة بأن رجالاً بثياب مدنية احتجزوا عامر وشريكه في الشركة، أحمد سليمان، إضافة إلى المسؤول المحلي. وفي النهاية قام المسؤول المحلي، الذي أطلقت السلطات سراحه بعد ساعات، بإبلاغ العائلة بأن الشرطة أخذت عامر إلى قاعدة الجلاء.
فيما بعد قال عامر لشقيقه إن السلطات نقلته في مارس/آذار من سجن العزولي إلى سجن العقرب مشدد الحراسة داخل مجمع سجون طرة في القاهرة. وحينما زاره شقيقه هناك في 10 أغسطس/آب، لم تبد على عامر آثار إصابات ظاهرة، رغم أن شريكه سليمان كان قد أبلغ الشقيق بتعرض عامر لخلع في الكتف جراء التعذيب أثناء احتجازه بسجن العزولي قبل شهور.
مثل متهم آخر أمام المحكمة العسكرية في كرسي متحرك. وقال والده لـ هيومن رايتس ووتش إن ابنه اختفى يوم 16 أو 17 مارس/آذار، فقام الأب بإيداع شكوى لدى وزارة الداخلية من دون نتيجة. وقال الأب إن رجلاً رفض الكشف عن هويته زاره في منزله لاحقاً وأخبره بأن السلطات تحتجز ابنه في سجن طرة.
عند حصول الأب في النهاية على تصريح بزيارة ابنه، لدقائق قليلة، وجده يستخدم عكازين.
وقال الأب: “قال لي إنهم عذبوه. كانت ركبته اليسرى مدمرة تماماً وعظمه فخذه اليسرى مكسورة. فسألته مباشرة: ’هل تم عرضك على النيابة؟‘ فقال إنه لا يعرف لأنه كان معصوب العينين أثناء معظم الاستجوابات. وقد أمليت عليه جميع الاعترافات تحت وطأة التعذيب”.
وقال المحامي حلمي لـ هيومن رايتس ووتش إنه رغم قدرة الرجال على استئناف الأحكام الصادرة بحقهم، إلا أن السلطات ألبستهم الزي البرتقالي الذي يرتديه الصادرة بحقهم أحكام نهائية، على ما يبدو بغية “الضغط عليهم نفسياً”. وقد حاول إقناع الرجال بتقديم طلبات استئناف، لكنهم رفضوا حتى الآن.
قال والد المتهم الآخر إنه بدوره حث ابنه على الاستئناف، لكن الابن رد قائلا: “لا يستأجر المرء غرفة ممن سرق منزله”.
يواجه الرجال التسعة أيضاً محاكمات أمام محاكم طبيعية كجزء من مجموعة يزيد عددها على المئتين من المتهمين بالانتماء إلى أنصار بيت المقدس.
وتعمل المحاكم العسكرية في مصر تحت سلطة وزارة الدفاع، لا السلطات القضائية المدنية. وقد دأبت على حرمان المتهمين من الحقوق التي تمنحها المحاكم المدنية، بما فيها حق المتهم في إخطاره بالتهم الموجهة إليه، والحق في التواصل مع محام والمثول على وجه السرعة أمام قاض في أعقاب الاعتقال.
وفي أبريل/نيسان حكمت محكمة عسكرية على أحد مديري مواقع التواصل الاجتماعي بالموقع الإخباري الإلكتروني “رصد” بالسجن لمدة عام لمساعدته على تسريب شريط يحتوي على ملاحظات أدلى بها السيسي أثناء عمله كوزير للدفاع. برأت المحكمة أحد موظفي رصد وحكمت على اثنين آخرين ما زالا طليقين، وعلى أحد المجندين بالسجن لمدة 3 سنوات. وفي مايو/أيار وسبتمبر/أيلول أصدرت المحاكم العسكرية أحكاماً بالسجن لمدة عام واحد على 10 متهمين ـ ومعظمهم من أعضاء الإخوان المسلمين أو سياسيين من حلفائها ـ للشروع في عبور الحدود إلى السودان بالمخالفة للقانون. وفي السويس أفادت تقارير بأن محكمة عسكرية أجلت محاكمة 20 مدنياً تم اعتقالهم في أغسطس/آب 2013 واتهامهم بالاعتداء على مبان حكومية.
ويمثل استخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين انتهاكاً للميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر في 1981، والذي صدق عليه البرلمان المصري في 1984. كما أن مبادئ وإرشادات اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان بشأن الحق في المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية تفرض حظراً صريحاً على محاكمة المدنيين عسكرياً في كافة الظروف.
ويحمل قانون السيسي شبهاً كبيراً باثنين من المرسومات التي أصدرها وزير العدل عادل عبد الحميد والمجلس العسكري الذي كان يحكم مصر وقتذاك في يونيو/حزيران 2012، قبل انتخاب مرسي مباشرة وفور انتهاء حالة الطوارئ التي سادت البلاد لوقت طويل. كان مرسوم عبد الحميد يخول ضباط الشرطة والمخابرات العسكرية صلاحية الضبطية القضائية لاعتقال مدنيين، بينما عمل مرسوم المجلس العسكري على تخويل الرئيس سلطة استدعاء الجيش “للمشاركة في مهام حفظ الأمن وحماية المؤسسات العامة”.
وتحدد المادة 204 من الدستور المصري، الذي تمت صياغته والموافقة عليه في استفتاء شعبي في يناير/كانون الثاني في عهد الحكومة المؤقتة التي أعقبت عزل مرسي، تحدد طائفة من الجرائم التي تجيز عند ارتكابها محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، ومنها الاعتداء على أفراد عسكريين أو معدات عسكرية، أو الجرائم التي تمس مصانع القوات المسلحة أو أموالها أو أسرارها أو وثائقها. ولا تختلف هذه المادة كثيراً عن المادة 198 في الدستور السابق، الذي تم تبنيه في عهد مرسي، وكان يسمح بدوره بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، رغم اعتراضات النشطاء وبعض الساسة.
قالت سارة ليا ويتسن: “هذا المرسوم الجديد خبيث ويناقض المعايير الأساسية للعدالة، وعلى السلطات المصرية إلغاء كافة القرارات الصادرة عن محاكم عسكرية بحق مدنيين منذ تولي الحكومة الجديدة للسلطة، كما يحتاج الرئيس السيسي إلى تحرك سريع لتعديل هذا المرسوم”.