تايتانك ما زالت في ذاكرة العالم
في الرابع عشر من أبريل 1912 غرقت سفينة تايتانيك في شمال المحيط الأطلسي أثناء رحلتها الأولى، بعد اصطدامها بجبل جليدي. بعد مائة عام على غرقها لا زالت قصة هذه السفينة الأسطورية ونهايتها المأساوية تثير الاهتمام العالمي.
تعتبر تايتانيك أشهر سفن العالم على الإطلاق، بعد أن دخلت التاريخ من أوسع أبوابه في بدايات القرن الماضي. فالسفينة، التي أطلق عليها مصمموها لقب “السفينة التي لا تغرق”، غرقت في رحلتها الأولى، وأخذت معها أكثر من 1500 ضحية من مجموع ركابها البالغ 2200 شخصاً. أسطورة تايتانيك لم ترتبط فقط بمأساتها وفاجعتها الإنسانية الكبيرة، بل بتخليد هذا الحادث من خلال كتب وأفلام وأعمال أدبية وفنية، وهو ما لم تنجح سفينة قبل ذلك في عمله.
ففي بدايات القرن العشرين لاقت الرحلات من أوروبا إلى أمريكا الشمالية رواجاً كبيراً من قبل شرائح مختلفة من المجتمعات الأوروبية، إذ سعى مئات الآلاف من الأوروبيين إلى الهجرة إلى القارة الأمريكية، أو ما كان يطلق عليه “العالم الجديد”، بحثاً عن حياة أفضل ومستقبل جديد. بالنسبة لهؤلاء المهاجرين كانت هذه الرحلة تعني الكثير، وكانوا مستعدين للتضحية بكل ما يملكون من أجل القيام بها. أما بالنسبة للطبقة الغنية، فكانت الرحلة إلى أمريكا الشمالية وبالعكس أحد أوجه الترف والبذخ ونوعاً من الرفاهية والاستجمام.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الثورة الصناعية في أوروبا وما أعقبها من تطورات تقنية كبيرة جعلت السفر عبر البحار مريحاً وسريعاً، خاصة وأن السفر بالسفن كان آنذاك أهم وسيلة لنقل الركاب حول العالم. لذلك انصب الاهتمام على تطوير تقنيات بناء السفن وتطوير استخداماتها المختلفة، إضافة إلى الحرص والثقة العمياء في استخدام احدث الابتكارات التقنية في صناعة السفن. هذه الثقة سرعان ما تبددت بعدما هزمت الطبيعة أعجوبة صناعة السفن آنذاك وهي سفينة تايتانيك.
كل شيء في تايتانيك كان يشير إلى عظمة وفخامة هذه السفينة، التي بدأ التخطيط لها في شركة وايت ستارلاين الإنكليزية سنة 1908، إضافة إلى سفينتين أخريتين هما أوليمبيك وبريتانيك. وكان من المفترض أن تكون هذه السفن الثلاث أفخر وأكبر السفن في ذلك الوقت، وأن تكون تايتانيك من بينهن الأكبر والأسرع والأجمل.
بلغ وزن تايتانيك نحو 45 ألف طن، وطولها 269 متراً، ما جعلها أضخم سفينة ركاب في العالم. كما تم تزويدها بمحركات ضخمة مكنتها من قطع المسافات الطويلة بسرعة كبيرة، مقارنة بوسائط النقل الأخرى آنذاك. وبهذا اعتبرت تايتانيك طفرة تقنية كبيرة بالنسبة لذلك الوقت.
ومن ناحية الفخامة أيضاً كسرت تايتانيك كل الأرقام القياسية، إذ حظي ركاب الدرجة الأولى البالغ عددهم 420 بكل ما يحلمون به من وسائل راحة وترف، ما بين حمام سباحة مدفأ وصالة رياضية وملعب سكواش وحمام ساونا والكثير من المحال المختلفة والمقاهي والمكتبات، التي تناسب حياة الطبقات الغنية آنذاك. كما احتوت تايتانيك على مطعم راق على متنها، يلبي جميع الطلبات الخاصة بزبائنه. هذا كله جعل تايتانيك مزيجاً من فندق فخم عائم وسفينة عملاقة شكلت نموذجاً للسفن السياحية الحالية.
كما نجحت تايتانيك أيضاً في استقطاب ركاب من شرائح المجتمع المختلفة، فالفقراء استقلوها طلباً للهجرة والأغنياء طلباً للصيت. وبالإضافة إلى التغطية الإعلامية التي حظيت بها إثناء بنائها والشهرة الكبيرة التي اكتسبتها قبيل اكتمال بنائها، احتوت السفينة ضمن ركابها على عدد كبير من مشاهير ذلك الزمان، كرجل الأعمال بنيامين غوغنهايم وتاجر الأقمشة مارتن روتشيلد والمليونير الأمريكي جون جاكوب أستور.
كما تخلل رحلة تايتانيك قبل كارثتها الكثير من قصص الغرام والحوادث طريفة، كقصة لاعب التنس الشهير كارل هويل، الذي أراد شراء تذكرة سفر من الدرجة الأولى على ظهر السفينة فقط للتقرب من حبيبته هيلين نيوسوم وطلب الزواج منها، والحادثة التي وقعت للمحتال الألماني المعروف ألفريد نورني، الذي انتحل صفة نبيل ألماني يدعى البارون ألفريد فون دراخشتيد، واشترى تذكرة من الدرجة الأولى بدل تذكرة الدرجة الثانية التي كان يحملها، في محاولة منه للتقرب من ركاب الدرجة الأولى للاحتيال عليهم وسرقة أموالهم. هؤلاء المشاهير نجوا من حادثة غرق السفينة، والمحتال نورني توفي بعد 60 عاماً من هذا الحادث في مدينة كولونيا بألمانيا.
لم تعمر سفينة تايتانيك طويلاً، إذ انتهى عمرها خلال أولى رحلاتها، إلا أن العشرات من الكتب والقصص والمسرحيات، بالإضافة إلى الآلاف من المقالات الصحفية، كُتبت عنها، مما أثار اهتمام صناع الأفلام، الذين أنتجوا عشرات الأفلام السينمائية حول قصة غرق السفينة الأسطورة، كان أولها فيلم صامت بعد شهر من غرق تايتانيك سنة 1912، مثلت فيه دور البطولة الممثلة الشهيرة دوروثي غيبسون، التي كانت على ظهر السفينة ونجت من الحادثة.
في سنة 1929 أنتج أول فيلم ناطق حول كارثة تياتينيك، إلا أن أشهر الأفلام حول غرقها هو بالطبع فلم “تايتانيك” من بطولة ليوناردو دي كابريو وكيت وينسيلت، الذي نجح في خطف أنظار الملايين من المشاهدين من مختلف أنحاء العالم والفوز بإحدى عشرة جائزة أوسكار سنة 1997. وبمناسبة الذكرى المئوية لكارثة تايتانيك، طرح مخرج الفيلم جيمس كاميرون نسخة جديدة معدلة ثلاثية الأبعاد إلى صالات العرض.
وفي سنة 1985 وبعد محاولات فاشلة كثيرة، عثر العالم روبرت بالارد على حطام سفينة تايتانيك في قاع المحيط الأطلسي، ما وضع بدوره حداً للكثير من التخمينات والأسرار التي رافقت مسيرة بناء وغرق السفينة الأسطورية. بعد اكتشاف حطامها تم إنقاذ الكثير من مقتنيات الركاب والبضائع التي كانت موجودة على ظهر السفينة المنكوبة، بيعت فيما بعد هذه بآلاف من الدولارات في المزادات العلنية. وفي الذكرى المئوية لغرق تايتانيك خصص العديد من المتاحف العالمية جناحاً خاصاً لعرض مقتنيات السفينة. أما مدينة بلفاست، التي بنيت فيها تايتانيك قبل نحو مائة عام، فقررت بناء متحف ضخم عن السفينة الأسطورة، افتتح أبوابه بداية الشهر الحالي في ذكراها المئوية الأولى.